منى آل جارالله تكتب لـ”درة” | ما بين الرقعة والنسخ .. (عيدنا في الديرة ) من لعثمة المعايدة إلى فلسفة المجالس

بقلم / منى آل جارالله  

في الديرة… للعيد طعم مختلف ليس لأنه مليء بالحلوى والمجالس والعُقل المطرزة، بل لأنه يُجبرك على العودة إلى جذورك، إلى أصلك، إلى تلك التفاصيل الصغيرة التي لم يجرؤ الزمن على محوها رغم كل التحديثات والمولات والرسائل الصوتية والبثوث بالتيك توك .
يبدأ العيد منذ لحظة الوصول، حيث تدق الأبواب بعفوية، ويعلو صوت “عساكم من عواده” قبل أن تفتح. يبتسم وجهك، وتحاول أن تقول:
“من العايدين الفايزين المقبولين”
لكن الكلمات تتزاحم، والعبارة تخرج وكأنها خلطة بين دعاء وتهنئة وتلعثم خجول: من الفازين العيدين إن شاء الله تقبل الله طيب
ويكتفون بالضحك، لأن اللعثمة في العيد سُنة اجتماعية غير مكتوبة.
ثم تبدأ الجلسة. أول ما يلفت نظرك هو صحن تمرٍ لم يمس ، وعبوة ماء فتحتها ثلاث أيد مختلفة دون أن تشرب. الجميع يتحدث… ولا أحد يسمع، لأن الحديث في مجلس العيد ليس للرد، بل للعرض. كل يعرض نجاحه، سفره أو قصة عمه الذي “اشترى أرضًا وقفز سعرها في أسبوع”
وسط هذه الفوضى، تكتشف أن العيد أيضا موسم المبالغات البسيطة
أحدهم يروي قصة ضياع طفله في الحرم، وآخر يقول: “أنا ضيعت سيارتي في جدة كلها فقط من باب المشاركة
وثالث يرد بثقة: أنا ضيعت نفسي عام ٢٠١٥، للحين أدورها عبارة فلسفية خارج نص العيد حيث يُرمق بنظرات صامتة .

وجيل الألفية… أولئك الذين ولدوا بين التحولات، لا هم عاشوا العيد بعبق السنين الماضية، ولا انسجموا تمامًا مع مظاهره الحديثة. إنهم جيل ينقر على الشاشة أكثر مما يطرق على الأبواب، ويكتب “كل عام وأنتم بخير” عشرات المرات… دون أن يرفع سماعة الهاتف مرة واحدة.
أعيادهم سريعة، مليئة بالصور المعدلة والمناسبات المخطط لها بدقة…
لكنها غالبًا فارغة من التلقائية، من تلك الفوضى اللطيفة التي كانت تحكم العيد قديمًا، حيث لا يعرف الطفل كم ريالًا سيجمع، ولا من سيزوره دون موعد، ولا متى ينتهي اللعب ويبدأ النوم وسط المجالس
-رحم الله – أبو ذياب الدوسري كنا ننتظره بشغف بعد صلاة العيد لنأخذ العيديات منه.

مع مرور الوقت، يبدأ العيد في التحول من مناسبة اجتماعية إلى اختبار صبر عضلي
المجلس يحتفظ بحرارته، والكنب صار أقرب إلى فخ استراحة
تبدأ رؤوس بالانخفاض، وعين تُغلق على حين غرة
وإذا سمعت شخيرا خافتًا من الزاوية، فتأكد أن صاحبها لم يغلبه النوم… بل استسلم له بكل فخر.
النوم في مجلس العيد لا يعد عيبا، بل هو اعتراف ضمني بأنك ابن الديرة “الاصيل”

في الديرة يقاس العيد بعدد صواني العريكة وكمية السمن التي تُسكب بلا رحمة على وجه الصحن، كأنها إعلان رسمي لبدء المعركة
ويح قلبي وعريكة ( نورة بنت مفلح ) التي لا انتصار لك معها .
تدخل البيت الأول، فتعانقك رائحة خبز التنور الملتصق بالممرات كما يلتصق الحنين بأول الذاكرة
وهناك تبدأ الحفلة الأولى: كُل ، توك ما ذقت شي!”
والله أنك شبعت من بيتين قبل، لكن قانون العيد في الجنوب لا يعترف بالاعتذار، ولا يفهم كلمة “كفاية”
تحاول أن توازن بين التحية واللقمة، فتقول لأحد كبار السن:
“كل عام و إنت بخير… عريكة ؟ ”
وتنطلق ضحكة جماعية من المجلس، لا سخريةً منك، بل لأن لعثمة العيد هنا ليست زلّة، بل طقسًا اجتماعيًا لطيفًا يدل على أنك من أهل الديرة، لا من متسلقي الإنستغرام بنظرهم
وقبل أن ينتهي اليوم، وقبل أن تخرج من المجلس الذي شهد ثلاث نكات مكررة وأربع قهوات غير مكتملة، يبدأ سؤال داخلي يتسلل إليك:
هل نحن نحتفل فعلًا… أم نكرّر الطقوس فقط؟
هل نعايد لأننا نشتاق لطفولتنا .. أم لأن العيد لا يكتمل بدون “سَنّة المعايدة”؟
وهل المجالس ما زالت تجمعنا… أم أنها تُذكرنا كم تباعدنا، وكم تغيرنا، وكم تمسكنا بالقالب ونسينا المضمون؟
العيد في الديرة جميل، لكنه مرآة صادقة.
يعرضك على حقيقتك: لعثمتك، ضحكتك غير المتكلفة، غفوتك من التعب، وابتسامتك التي لا تخفي شيئًا.
وفي النهاية…
ربما العيد ليس مناسبة للفرح فحسب، بل لحظة نادرة نرى فيها أنفسنا كما نحن… بلا فلاتر السناب، تحت نور طبيعي، وعلى سجاد يحمل رائحة الطين والقهوة القديمة
تنهض، تودع، وتشعر بثقل لا علاقة له بالطعام فقط، بل بالزمن.
تسأل نفسك بهدوء:
هل نعيد لأننا نحب العيد… أم لأننا لا نعرف ماذا نفعل بدونه؟
هل نتبادل العريكة والمعايدة، لنشبع المعدة أم القلب؟
وهل المجالس التي تجمعنا، ما زالت فعلاً تحمل نفس الدفء… أم صارت واجبًا ثقيلًا نغلفه بالضحك والسمن؟
العيد في الجنوب أجمل من أن يُختصر، لكنه أصدق من أن يُجمل.
فهو مرآة…
يرى فيها كل واحد منا نفسه: محشوا بالذكريات، مثقلا بالدفء وجائعا دائما لهما … ولو شبع.
العيد في الجنوب
ليس مجرد يوم فرح…
بل روح تنبعث من تراب الطين،
ممزوجة بـحلاوة الماضي
مبلّلة بـرائحة الريحان في شرّفات البيوت (وآه من ريحان أمي وخبز أمي )
ومتكئة على صوت الأجداد وهم يتهامسون بين تكبيرة وضحكة.
هو صوت الباب حين يفتح دون استئذان
هو القهوة المرة التي تقدم بحب، لا بروتوكول
هو الطفل الذي يقبل رأس جدته، قبل أن يفك ظرف العيدية
العيد في الجنوب… عيد العائلة المتجذرة فهي ذاكرة لا تشيخ وحنين لا يستبدل وفرحة… لا تشبه غيرها
وكل عام وأنتم ومن تحبون بخير وتينة من قلب الجنوب

‫4 تعليقات

  1. مبدعه يامنى كم حبيتك وانتِ معانا كنت مختلفة و راقيه و جميلة 🤍🤍🤍🤍عبدية النعمي

  2. ماشاء الله بوركت الانامل و صح بوحك ….فعلا ابداع والله حقيقه بوركتي أخيه 🤍

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى