محمد أحمديني يكتب لـ “درة” | الحُكمُ فرعٌ عن التَّصوّر

بقلم / محمد أحمديني  

في الأدب، وهو مجالي الذي أفنيت فيه سنينًا نظَرًا وتأملًا وتذوّقًا، أخجل أن أحكم على رواية لم أقرأها، أو شاعرٍ لم أعش تجربته في ديوانه، أو ناقدٍ لم أقف على أدواته ومقولاته.
صحيحٌ أن لديّ تصوّرًا أزعم أنه كافٍ للحكم على أكثر الأجناس الأدبية، إلا أني لا أسمح لنفسي أن أقول في شيء لم ألامسه علمًا أو أثرًا أو وجدانًا.

فكيف – والحال كذلك – أُسارع إلى إطلاق الأحكام على الدوري السعودي، أو على غيره من دوريات العالم؟ كيف أقيس ما لا أملك له ميزانًا؟
لا أحكم على سوق الأسهم، ولا سوق العقار، ولا حراج السيارات، ولا حتى على أيّ الجِمال أجمل، ولا أقول إن سياسة يوغسلافيا خير من سياسة سريلانكا، ولا إن الأوارك (نوع من الإبل) أفضل من السواحل، ولا إن رعي الضأن خير من رعي المعز.

ليس عندي تصور واضح لما يجب أن تكون عليه هذه الأمور، ولا رغبة في ادعاءٍ لا تسنده دراية.

وأعجب – والله – ممن يطالع القصاصات، والتغريدات، والمقاطع المجتزأة، ويقرأ الروايات والقصائد قراءة سطحية، فينصّب نفسه ناقدًا، ويوزّع الأحكام على الناس كأنما ملك مفاتيح الذوق بحجة أن “له ذائقة”، وأن “كل ذي كبدٍ يستذوق”…

يا صديقي، إن ذوقك لا يعدو أن يكون صالحًا للحكم على كبسة أمك، لا على الشعر والرواية والمسرح، إذا كنت تقيس تذوّق الفن على تذوّق الطعام!

إن امتلاء النفس بالذوق السليم لا يأتي اعتباطًا، ولا يُبنى على كل ما تقع عليه عينك، وتلتقطه أذنك، ويهتزّ له جلدك.
الذوق الحقيقي هو استعدادٌ نفسيّ مكتسَب، وهو في أصله هبةٌ طبيعية تولد مع الإنسان، كما قال ابن الأثير: “الطبع يكمن في النفس كمون النار في الحجر”.

كلّ نفس تفيض بما ألفَت، لكن ليس كل مألوفٍ يصلح معيارًا، وما تألفه نفسك لا يصلح أن يكون قانونًا عامًا. إنه حُكمٌ شخصيّ، لا يُنفَّذ إلا في محكمتك أنت وحدك، ما لم يكن ذوقًا وُلِد من رحم الأدب الذي شهد له التاريخ، وتداولتهُ الأذواق الناضجة، وتواطأ عليه المتذوّقون العارفون.

فاكتب ما شئت، واحكم على ما تحب، مما تلقّفه قلبك، وتخيّله خيالك، لن يمنعك أحد،
لكن تذكّر… أن حكمك – ما لم يُبْنَ على درايةٍ وتمكّنٍ ووعيٍ – لا يعدو أن يكون كحكم عجوز لا تعرف من القهوة إلا “القشر”، أسندوا إليها الفصل بين البن الخولاني، والبن البرازيلي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى