أيام معدودات: تأملات في مدرسة رمضان

حين نستمع أو نقرأ قوله تعالى: “أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ” (البقرة: 184)، لا يسعنا إلا أن نقف متأملين تلك العبارة التي جاءت في سياق الحديث عن شهر رمضان المبارك. كيف يمكن أن تكون ثلاثون يوماً، بكل ما تحمله من روحانيات وتجارب، مجرد “أيام معدودات”؟ الجواب يتجلّى حين نأخذ بُعدًا أشمل للنظر: هي معدودات لأن عمر الإنسان نفسه معدود، ولأن الزمن في حقيقته هبة محدودة من الله، يجدر بنا أن نحسن اغتنامها قبل أفولها.
رمضان ليس مجرد شهر عادي؛ بل هو دورة حياة مصغرة. يولد الهلال، معلنًا بداية شهرٍ من النقاء الروحي، ويكبر مع مرور الأيام، حتى يبلغ منتصفه ويصل إلى أوجه. ثم يبدأ في التراجع شيئًا فشيئًا، حتى نودّعه ليلة العيد، كما نودّع عزيزًا فارقنا بعد أن ترك فينا أثرًا عميقًا.
وكما يبدأ الإنسان حياته رضيعًا ضعيفًا، ثم يشبّ ويبلغ أوجه قوته قبل أن ينحسر عنه الشباب رويدًا رويدًا، كذلك ينطوي رمضان في حركة زمنية مشابهة. لكن الفارق يكمن في أن رمضان هو مدرسة مكثفة، يُعطى فيها الإنسان فرصة ثمينة لترتيب أولوياته، وضبط نفسه، والتزود بالتقوى، كما قال تعالى: “لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة: 183).
لو تأملنا في مجمل أيام السنة، نجدها قرابة 360 يومًا، منها ثلاثون يومًا فقط مخصصة للصيام. نسبة ضئيلة لا تكاد تصل إلى 10%. ومع ذلك، في هذه النسبة القليلة، يكمن فضل كبير وأجر عظيم. هي أيام قليلة مقارنة بعمر الإنسان، لكنها تفتح أبواب الرحمة والمغفرة على مصراعيها، وتعطي الإنسان طاقة تجديد قد لا يحصل عليها في غيرها.
التأكيد على كونها “أيامًا معدودات” يذكّر الإنسان بأنه لن يُخلد في هذه الدنيا، كما أن رمضان نفسه لا يدوم. كلاهما ينتهي، لكن الذكي هو من يقتنص هذه الفرصة، تمامًا كما يسعى الإنسان العاقل إلى تحقيق أعظم المكاسب في عمره المحدود.
وهكذا، يصبح رمضان مدرسة متجددة، نتعلم منها أن بداية كل شيء تأتي معها مسؤولية: مسؤولية النية، والتخطيط، والاستفادة القصوى. ونُدرك أن نهاية كل شيء تذكّرنا بأن الزمن محدود، وأنه يجب علينا استغلاله فيما ينفع، والاستعداد لما بعده. فلا فرق هنا بين الهلال الذي يولد ويأفل، وبين الإنسان الذي يأتي إلى الدنيا ويرحل عنها.
هذه المدرسة السنوية لا تُدرّس الصيام فقط، بل تعلّمنا كيف ننظر إلى الحياة من زاوية أوسع: كيف نعيش أوقاتنا المخصصة في طاعة الله، وكيف نواجه نهاياتها بحسن العمل واستغلال الفرص. هي دعوة لأن نرى في “الأيام المعدودات” صورة مصغرة لحياتنا بأكملها: بداية، وسط، ثم نهاية. وهنا يتجلى الفضل الحقيقي: إدراك الحكمة في القليل، واستثمار ذلك القليل ليصبح زادًا كبيرًا لرحلة طويلة.