“من تايوان إلى بكين: الرحلة التي جعلت أبل إمبراطورية بلا حدود”

تكبير الخط ؟
بصفتها أول شركة تطرح أسهمها للتداول العام في العالم بقيمة 3 تريليونات دولار، تُعدّ “أبل” نوعًا غير معتاد من الفاعلين السياسيين؛ فهي تتمتع بموارد لا حصر لها، وقادرة على تشكيل السياسات الصناعية لدولة ما، لكنها تظل عُرضة لتقلبات قوى الحكم والتاريخ. قد تمتلك “أبل” ناتجًا محليًا إجماليًا يعادل اقتصاد دولة صغيرة، لكنها لا تمتلك جيشًا؛ وعليها أن تلعب وفق قواعد الآخرين.
هذا هو جوهر كتاب “Apple in China: The Capture of the World s Greatest Company” أي “أبل في الصين: اغتنام أعظم شركة في العالم”، وهو كتاب جديد للصحفي في جريدة “فاينانشال تايمز”، باتريك ماكغي، يرصد تطور “أبل” لتصبح قوةً عظمى في التصميم والتصنيع، أصبحت “معتمدة” بشكل خطير على العلاقات المربحة وشبكات سلسلة التوريد التي ساهمت في إنشائها في الصين، ثاني أكبر سوق استهلاكية للشركة.
وعلى مدى العقدين الماضيين، وتحت قيادة ستيف جوبز وتيم كوك، ضخّت شركة أبل مئات المليارات من الدولارات في الأسواق الصينية، وهو ما يكفي، من وجهة نظر ماكغي، ليُشكّل حدثًا “جيوسياسيًا مميزًا، أشبه بسقوط جدار برلين -لكنه حدثٌ استمر لسنوات عدة، مخفيًا تحت وطأة تهديدين مُزدوجين هما اتفاقيات عدم الإفصاح الصارمة، وبيئة إعلامية خاضعة للرقابة”، بحسب ما نقله تقرير لصحيفة واشنطن بوست عن الكتاب، اطلعت عليه “العربية Business”.
وكانت النتيجة تحوّلًا استثنائيًا في عمليات الإنتاج لأبل -تطوير ما يُعرف بـ”سلسلة التوريد الحمراء”- ساهم في الوقت نفسه في ترسيخ قطاع التكنولوجيا الصيني المُتزايد التنافس. ويعني مصطلح “سلسلة التوريد الحمراء” سلسلة التوريد التي تُنشأ أو تعمل تحت النفوذ الصيني، سواء من حيث التصنيع، أو القوى العاملة، أو التكنولوجيا، أو السياسات.
وكما يصف ماكغي، فإن شركة أبل “سارت وهي نائمة نحو واقع جديد” وقامت دون قصد بفعل يشبه بناء دولة، حيث استغلت العمالة الرخيصة في الصين، وضعف سيادة القانون، الوفورات الهائلة الناتجة عن الإنتاج واسع النطاق.
وإلى حد ما، يمكن القول إن إنفاق “أبل” في هذا السياق تجاوز نفقات خطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية.
كيف حدث هذا؟ عملت “أبل”، أولًا في تايوان ثم في الصين، مع شركاء مثل شركة فوكسكون -التي أصبحت لاحقًا عملاقًا في تصنيع الإلكترونيات- الذين كانوا قادرين على تحويل “الحقول إلى مصانع” في غضون أشهر.
عرضت الشركات التايوانية والصينية على “أبل” كل ما تريده، حتى لو كان العمل بدون تحقيق أرباح لهذه الشركات. وكما أوضح تيري غو، الرئيس التنفيذي الجريء لشركة فوكسكون، فإن “قيمة العمل مع أبل كانت في التعلم”.
لم تكن “أبل” تكتفي بمجرد الاستعانة بمصادر خارجية لتصنيع أجهزتها فحسب؛ بل كانت العلاقات التي أقامتها معقدة ومستمرة. فقد أرسلت الشركة أساطيل من المهندسين والمصممين والمديرين وغيرهم من الموظفين الذين شاركوا جنبًا إلى جنب مع نظرائهم الصينيين في “الابتكار المشترك” لعمليات إنتاج جديدة. ووفقًا لكوك، فقد خلقت “أبل” 5 ملايين وظيفة في الصين.
كان السفر الجوي كثيفًا لدرجة أن “أبل” أقنعت شركة يونايتد إيرلاينز بإطلاق رحلات مباشرة جديدة من مطار سان فرانسيسكو الدولي إلى المراكز الصناعية الصينية المزدهرة.
ومع بداية الجائحة، أفاد ماكغي أن “أبل” كانت تشتري 50 مقعدًا في درجة الأعمال يوميًا على متن الرحلات الجوية من سان فرانسيسكو إلى شنغهاي.
إغراءات سوق العمل يُعدّ كتاب “أبل في الصين” في بعض أجزائه سردًا صناعيًا وللتاريخ المؤسسي بحتًا في بعض الأحيان، ولكنه أيضًا يقدم رؤية ثاقبة لكيف يمكن لشركة قوية أن تقع في فخ الإغراءات المربحة لسوق العمل والاستهلاك.
يوثّق بعضٌ من أفضل أقسام الكتاب العلاقات المتشابكة بين رواد الأعمال الصينيين -من بائعي هواتف آيفون في السوق الرمادية غير الرسمية للمنتجات الأًصلية إلى مؤسسي شركات التصنيع الكبرى- مع شركة أميركية عملاقة اكتفت باتباع التيارات السياسية أينما اتجهت.
وبعدما كشفت التحقيقات عن انتهاكات واسعة النطاق لحقوق العمال في منشآت “فوكسكون” وأجزاء أخرى من شبكة موردي “أبل”، استجابت “أبل” بإصلاحات حقيقية. لكن الشركة همّشت أيضًا مديرها التنفيذي الرئيسي المُكلف بتحسين ممارساتها العمالية.
وفي الوقت نفسه، أدّى صعود الرئيس شي جين بينغ، أقوى زعيم صيني منذ أجيال، إلى حملة قمع وطنية ضدّ النشاط العمالي. وكما يقول أحد النقاد لماكغي، فإنّ “أبل” لم تُتكبّد سوى تكاليف ضئيلة للعمل في بيئة “شمولية”.
وفي عهد كوك المعروف بمثابرته، ربما قد تكون “أبل” أتقنت سلسلة التوريد وعمليات الإنتاج، لكنها طورت أيضًا مهاراتها في المناورات السياسية، حيث كان كوك يُجري زيارات منتظمة للقادة الصينيين.
وقدّمت الشركة أيضًا تنازلات، مثل إزالة تطبيقات الشبكات الخاصة الافتراضية (VPN) من متجر التطبيقات الخاص بها وتخزين بيانات العملاء داخل الصين.
ويقتبس ماكغي عن كوك قوله إن هناك قيمة في التواجد والمشاركة في هذه الأسواق. لكن النقاد يقولون إن كوك يُستغل من قبل الصين، بينما تتمتع “أبل” بحماية من ترسيخ شي لسلطته، والذي شهد سجن بعض أقطاب التكنولوجيا الصينيين أو إجبارهم على الخضوع.
انتعاش قطاع التكنولوجيا الصيني بفضل الاستثمار المالي، وبناء القدرات الصناعية، ونقل المعرفة والخبرة، ساعدت استثمارات “أبل” في الصين على تنشأة منافسيها المستقبليين، على الرغم من أن الكتاب قد يقلل من دور السياسة الصناعية لحكومة الصين في قطاع التكنولوجيا الضخم لديها الآن.
يصف ماكغي صعود “هواوي”، العملاق الصني في مجال الاتصالات، بأنه فاجأ “أبل” بشكل أساسي. لكن هنا أيضًا، استفادت “أبل” من الروابط السياسية، حيث فرضت إدارة الرئيس دونالد ترامب الأولى مجموعة من العقوبات التي -لفترة من الوقت- أعاقت أعمال “هواوي” المزدهرة في مجال الهواتف الذكية.
بدوره، سعى كوك لكسب ترامب، وقاد الرئيس في عام 2019 في جولة في مصنع في تكساس كان يُفترض أنه نموذجٌ لعودة “أبل” إلى قطاع التصنيع في الولايات المتحدة.
كما يشير ماكغي، كانت الجولة هزلية بعد الشيء. صرّح ترامب في تغريدة أنه أقنع “أبل بافتتاح المصنع، لكن المنشأة، المملوكة لمقاول فرعي، كانت تُنتج لسنوات أجهزة ماك برو، وهو منتج ثانوي في مجموعة “أبل”.
في البداية، عانى مصنع تكساس من صعوبات بسبب أخطاء في عمليات الإنتاج. وفي النهاية، استعانوا بمساعدة خارجية ألا وهي مهندسون صينيون من شركة فوكسكون.
كتب ماكغي: “بعد أكثر من عقد من إرسال أفضل مهندسيها إلى الصين، لتدريب الموظفين على كيفية تصنيع منتجات بجودة أبل، احتاجت كوبرتينو إلى إرسال مهندسين صينيين إلى قلب أميركا لإكمال المشروع”.
وكوبرتينو هو اسم مدينة في ولاية كاليفورنيا الأميركية حيث المقر الرئيسي لشركة أبل، وهنا يشير الكاتب إلى شركة أبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : العربية