حداثة الشعر

الحداثة كذبتنا الحقيقية لذلك صدقناها ، الشعر العربي كما صح عن تعريفه هو “كلام بليغ بياني موزون مقفى البيت الواحد منه موضوع قائمابذاته” هناك نوعين من الحداثة ، حداثة إيجابية وحداثة سلبية ، او من توهموا أنها حداثة ، فالأولى حافظت على شكل القصيدة العمودية وأختلفت في في المضمون او اللغة الشعرية التي بدأت من عنترة بن شداد في معلقته هل غادر الشعراء ، ثم أتى من بعدهِ ابي تمام وبشار بن برد فغيروا شكل القصيدة من المقدمة الطللية ، واستبدلها ابي نواس بالمقدمة الخمرية والذي خرج عن معطيات القصيدة العربية بالمقدمة الطلالية واستبدلها بالمقدمة الخمرية مواكبة مع عصره . عندما قال :
عاجَ الشَقِيُّ عَلى دارٍ يُسائِلُها
وَعُدتُ أَسأَلُ عَن خَمّارَةِ البَلَدِ
وهذا جيد إذ انه حافظ على اركان القصيدة ، ولم يكن مقبولاً عند أهل اللغة ، لما يجد به من الصنعة ، إذا قال إعرابي لأبي تمام : ” لماذا لا تقول ما يفهم ؟ قال : لماذا لا تفهون ما يقال ”
لكنها عند المتنبي اتت مختلفة خلاقة ، كما قال عن شعر المتنبي : المعري لن تستطيع ان تستبدل كلمة مكان كلمة أحسن منها ، وما أن اتت القصيدة الحداثية السلبية والتي خرجت من العراق على يد نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ، وفي الحقيقة لم يكن لهم السبق حسب ما بحثت فهناك باكثير تقدم عليهم بعقدين من الزمان ، وهناك قصيدة عنونة في “النظم الطليق” ١٩٢١ م من الشعر الحر ولم يجرؤ شاعرها على ذكر اسمه وإنما وقع بحرفين (ب. ن) نشرتها جريدة العرق ذكرها الدكتور أحمد مطلوب في كتابه (النقد الأدبي في العراق) بدر شاكر السياب أصدر ديوانه (ازهار ذابلة) وفيها قصيدة من الشعر عام ١٩٤٨م ، وقصيدة نازك الملائكة الكوليرا ، والتي انتشرت على أستحياء ، وعارضها من كان لهُ قلبا لبيب ، وهناك من يرجعها إلى الصراع بين الشرق والغرب وما يحاول الغرب ان يفرضه من نموذجا حضاري يخرجه مورثه وكل موقومات وثوابته ..
وهذا ينقص من هيبتها الكتابية والفلسفة التي كتبت عليها القصيدة العمودية كما قاله ابي يلام الجمحي في كتابه طبقات الشعراء ، وقد قدم د.غازي القصيبي في محاضرة أزمة الشعر المعاصر وجهة نظر مختلفة حول موضوع الشعر لخص فيها أن الأزمة ليست أزمة شكل وبناء، بل بمحاولة الخلود عبر القصيدة العمودية.
وهناك من سخر منها كما قال شاعر لبناني قصيدة يقول :
تكلمني فلم افهم عليها
كأن حديثها الشعرً الحديثُ
القدما حددوا للشعر وظيفتان :
١. وظيفة أجتماعية يرتبط بمجتمعه ببيئته
٢. وظيفة جمالية وكلاهما لا تطغي على الآخر
وما نجده في التفعيلة وهي الأقرب لأنها حافظت على موسيقى لأحتفاظها بثمانية بحور غير انها كفرت بالقافية وهذا ما يعيبها أضافة إلى الغائها ثمان بحور أخرى ، تشبعوا بالحداثة حتى لم ويعرفوا يكتبوا شعرٍ حداثيا خاليا من المعنى تجريديا وكأنها طلاسم ، اتت من الغرب من المهجريين لضرب اللغة ، الحداثة الغربية كان منشئها ١٨٢٢م النصف الأول من القرن الثاني عشر ، بدابتها كانت مع الرومانسية ارهاص أولي ثم بعد ذلك أتت بعدها الواقعية ، جاءات على انقاض الرومنسية ، ومنهم من يرجعها إلى عصر التنوير الذي شهد ازمة دينية بين الكنسية والفكر الحداثي ومعطياته ، تبناها عدد من الشعراء وعلى رأسهم ادونيس الذي عرفها ” على أنها الأتلاف في الاختلاف
الأتلاف أن تكون متكيفا معا ومواكبا التطور الحاصل على مستوى القصيدة” العدمية والعبثية هي احد سيمات ما بعد الحداثة كما نجدها في قصائد ادونيس ، والتي أتت لتحطم ذلك النسق ، ومن ثم اتت قصيدة النثر لتلغي الثمانية بحور الباقية والقافية وهذا عبثٌ ما بعدهُ عبث ، إذا اسمها قصيدة ، قد اتقبلها بفن أخر بعيدا كل البعد عن مسمى القصيدة وهذا يجري على التفعيلة ، متى يستحق الكلام اسم البلاغة يقول الجاحظ في البيان والتبين :
لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه فلا يكون لفظهُ إلى سمعك اسبق من معناه إلى قلبك . يصلان معاً ، بون شاسع بين القصيدة العمودي وغيرها .
الاستاذ الكاتب القدير
يتردد الان كثيراّ في الوسط الثقافي والادبي مفهوم الحداثة وما بعد الحداثة ، واذا كان من الممكن ان نقارب مفهوم الحداثة كما سنأتي علية لاحقاّ فإن مفهوم ما بعد الحداثة يظل أمر يصعب على الكثير هضمة واستيعابه بل ان فرانسيس فوكوياما وصف هذا المصطلح ( ما بعد الحداثة ) بأنه نظرية نخبوية وادبية ولا يحمل تعبيراّ عن نظرية تطور سياسي واقتصادي وذات اثر فكري وهناك بالطبع اخرون من غير فوكوياما من يقارب رأيه لهذا المفهوم و ليس هنا مجال لبسط الكلام فيه
واذا جاز لنا ان نعتبر الحداثة مصطلح واضح المعالم لأنه يصف المرحلة التي تحققت من خلالها للشعوب الاوربية نقلة نوعية على المستويات المختلفة الاقتصادية والفكرية والسياسية بل وحتى الاجتماعية نتجت عنها حضارة مختلفة عما سبق ، فإن المؤكد ان وصول الحداثة – بالمعنى السابق – خارج القارة الاوربية لم يتحقق بنفس القدر التي تحقق للشعوب داخل القارة الاوربية وما يهم هنا إن تلك النقلة التي تحققت نتيجة ما يسمى الحداثة على ما يبدو قد احدثت صدمة حضارية اصابت بدون شك مبدعينا العرب او معظم نخبنا العربية في مقتل فأخذنا باستيراد كل ما نتج من افرازات الحداثة سواء في الجانب الاقتصادي او النظم لسياسي بأشكالها وتنوعاتها المختلفة وللأسف استوردناها بكل تشوهاتها وحاولنا زراعتها دون النظر ان كانت تلك النظم تناسب التربة المعدة لها ام لا ، و بقليل من التمحيص يتضح جلياّ اّ للأسف بأننا استوردنا البضاعة كاملة ولم نستورد الفكرة أي فكرة التطوير و وجلبناها بكل عللها ومن دون تمحيص فجأت النتائج مشوه على جميع الجوانب المختلفة اقتصادية واجتماعية وسياسية ولم يكن الجانب الفكري الذي هو موضوع مقالة الكاتب القدير بمناّ عنة
إن تطور الجانب الفكري والثقافي كان احد ارهاصات الحداثة الغربية بلا شك وقد استوردنا– ما يسمى الشعر الحديث – كأحد الفنون الادبية التي تم تطويرها في عصر الحداثة ، لقد استورد بعض المبدعين العرب الذين صدمتهم الحداثة الاوربية فكرة تطوير الشعر العربي المعروف من مئات السنين زاعمين إنه تطوير للشعر العمودي والسبب المباشر معروف غير انهم تذرعوا بأن التطور سنه الوجود و القديم لا يناسب الحديث وان الوقوف عند القديم عجز عن التطوير ومواكبة العصر !!! متناسين اولاّ ان الادب الاصيل هو الذي تنبع قوانينه من داخلة تماماّ لا من الخارج كما المح الكاتب في مقالة ومتناسين ثانياّ ان هناك من الاشياء من يستمد جمالة وروعته واصالته من قدمة فالاهرامات جميلة لأنها قديمة وفنار الاسكندرية وحدائق بابل المعلقة تظل مبهرة وأصلية رغم قدمها وجميع جميع عجائب الدنيا السبع جميلة كذلك لأنها قديمة ، بل ان النجوم التي تزين السماء جميلة وهي قديمة والقمر يظل الى قيام الساعة جميل ومبهر وملجأ الشعراء وهو قديم ، وفي تقديري ما ينطبق على الامور المادية ينطبق على الامور الفكرية والادبية الذين منها الشعر لأن من يستوعب الجمال هي النفس او الروح قبل العين والاذن التي هي الادوات لنقل الجمال الى النفس فاذا استثنينا القران لأنه كلام الرحمن فإن في الكثير من خطب العرب المنثورة واشعارهم ما يظل جميل معنى ّ ولفظاّ وايقاعاّ رغم مضي كل هذا السنون ويكفي قراءة المعلقات اوكثير من قصائد شعراء العصر الاموي والعباسي لتعرف مدى جماليات المعاني والالفاظ وجودة السبك رغم مئات السنين التي تفصلنا عن منشأها
اني اتفق مع الكاتب ان الامر قد يكون مقبولاّ لو قدم الشعر الحديث الذي حطم الكثير منه كل معنى لخصائص الشعر العربي ابتداء من القافية مروراّ بالمعنى تحت مسمى فناّ اخر من الفنون الادبية و لكان هذا اوفق واقل جناية على معنى الشعر كما عرفة العرب
ان فتنة التجديد التي اخذت بلباب جماعة التجديد للأسف خلق شعراّ غريب عن الذائقة العربية للكثير من المهتمين والادباء فضلاّ عن القارئ العادي حتى قال احد الادباء العرب – محمد الماغوط – عن احد اكبر الشعراء الحداثيين : لو كنت مثقفاّ لكتبت شعراّ لا يفهمه احد مثل ادونيس !!
والمصيبة ان يأتي احدهم ويقول ان هذا ذنب المتلقي الذي لا يفهم وليس ذنب الشاعر الذي ينظم الشعر الحديث مع ان الدكتور القصيبي يقول : إذا قرأت ت شعراّ لا تفهمه فلا تحتقر ذكاءك ، احتقر ذكاء الشاعر ! واخيراّ لا باس ان ننهي المقال بهذه الطرفة
فقد استوقف شاب مندفع إلى دنيا الشعر الحديث ذات مرة الاديب المعروف علي المصراتي وقال له «يا أستاذي أريد أن اسمعك بعضاً من إبداعي الشعري»، وانطلق الشاب يقرأ شيئاً من شعره قال:
في الصباح أيقظتني سمكة بيضاء وهي ترفرف فوق الشجرة…
عرفتها وسألتها فقالت… الخ.
واستمر الشاب على ذاك المنوال، وعندما أنهى الشاب قصيدته، قال له المصراتي «مبروك يا ابني». فرح الشاب كثيراً، وقال مبتهجاً «هل أعجبك شعري يا أستاذي وقلت لي مبروك؟».
قال له المصراتي «لقد باركت لك بخروج هذا الشيء الذي لو بقي في بطنك لسبب لك الكثير من المغص، بل والقروح».
احسنت أساذي