جدلية الحقيقة
في قلب الفكر الإنساني، تتأرجح الحقيقة بين التعدد والاختلاف. تتشكل الأفكار في أذهان البشر بتأثير البيئة التي يعيشون فيها، وتظل معرفتهم محدودة بما هو متاح لهم من مصادر فكرية ومعارف. في كل مجتمع، نرى نمطًا فكريًا سائدًا يتشكل نتيجة هذه البيئة، وفي المقابل، هناك مجتمعات أخرى تحمل أفكارًا قد تكون مختلفة، وربما متناقضة تمامًا. لكن ماذا يحدث عندما ينتقل فرد من بيئة إلى أخرى، فيتعرض لفكر مغاير؟ يعود إلى موطنه الأول وقد حمل معه بذورًا جديدة من المعرفة، لتبدأ جدلية الحقيقة بين الفكر الذي نشأ فيه والفكر الذي اكتسبه من العالم الخارجي.
هذه الجدلية ليست مجرد صراع بين أفكار متباينة، بل هي تجسيد لصراع أعمق حول ما هو الصواب وما هو الخطأ. كيف يمكن للبشرية أن تحسم هذه الجدليات الفكرية التي تبدو بلا نهاية؟ هل يمكن للعقول البشرية وحدها أن تصل إلى مرجعية مشتركة؟ أم أن اختلاف البيئات والمعارف سيظل حائلًا دون الوصول إلى إجماع فكري؟
هنا، تتجلى “جدلية الحقيقة” في أعمق صورها. العقول البشرية، بقدرتها على التفكير والتحليل، دائمًا ما تصطدم بأسئلة كبرى تتعلق بمعنى الحق والحقيقة. وفي هذا التصادم بين الأفكار المختلفة، نكتشف أن البشرية قد لا تستطيع وحدها أن تتوصل إلى مرجعية موحدة تحسم الخلافات وتضع حدًا لهذه الجدليات الفكرية.
ولهذا، أرسل الله الرسل وأنزل الكتب السماوية لتكون مرجعية حاسمة، تحسم جدلية الحقيقة وتوجه الإنسان نحو الصواب. فالكتب الإلهية، بما تحمله من نور وهداية، جاءت لتقطع الشك وتضع المعيار الذي لا يقبل الجدل. وقد أيد الله هذه الكتب بالمعجزات التي تخاطب العقل والفطرة، فلا يمكن لعقل سليم أو فطرة صافية أن ترفضها، إلا من أغلق قلبه وكابر أمام الحقيقة.
والقرآن الكريم، بصفته خاتم الكتب السماوية، يمثل المرجع النهائي في جدلية الحقيقة. هو الميزان الذي أنزله الله ليكون هداية للعالمين، ولتجتمع البشرية عليه بوصفه المصدر الذي يحمل النور والحق من خالق السماوات والأرض. في ظل تعدد الأفكار وتصادمها، يبقى القرآن هو المرجع الذي يجب أن يُحتكم إليه، لأنه يأتي من الحكمة المطلقة التي لا تخضع لقيود العقول البشرية أو تقلباتها.
إذًا، في خضم جدلية الحقيقة التي يعاني منها الفكر الإنساني، نجد أن الوحي الإلهي هو الحل الحاسم الذي ينير درب الإنسان ويخرجه من دوامة الأفكار المتناقضة. فالخالق، الذي يعرف تفاصيل الإنسان واحتياجاته، أنزل القرآن ليكون النور الذي يهتدي به البشر، ويضع حدًا لجدلية الحقيقة التي لا تنتهي بين عقولهم المختلفة.