صباحات مُنيرة..إرث ووصية الميلاد

بقلم : منيرة الهاجري  

ثمة أشياء لا يُمكن للزمن أن يُفنيها، أشياء تتخطّى هشاشة الجسد وعابرية اللحظة؛ إنّها الكلمات.
الكلمات إرثٌ من نور، لا تنحني تحت وطأة الفناء، ولا تهزمها عتمة الغياب.. هي الروح حين تكتسي جسدًا مرئيًا، قادرة على أن تصمد في وجه الريح، أن تعبر الصحارى الجافة، وأن تصير جسرًا ممتدًا بين أمسٍ مضى وغدٍ لم يأتِ بعد.

حين نُنصت للكلمات التي خلفها الأوّلون، نشعر وكأنّنا نتسلل إلى عوالمهم، نشاركهم آلامهم ورجاءهم. تلك الكلمات لم تكن مجرد أصوات عابرة أو حبر على ورق؛ كانت عناقًا خفيًا بين ذواتهم وأرواحنا. ألم تكن “ملحمة جلجامش” إرثًا لا يتوقف عن السرد؟ ألم تكن قصائد المتنبي عرشًا من كلماتٍ ظل قائمًا رغم العصور؟ إنّ الكلمات، حين تُولد من جوف التجربة وتغتسل بوهج الصدق، تصبح أبقى من الحجر وأصلب من الحديد.

لكن، إذا كانت الكلمات إرثًا نتلقاه، فإننا أيضًا صُنّاع وصايا للميلاد. الميلاد هنا لا يعني فقط اللحظة التي يخرج فيها الإنسان إلى النور، بل كل ولادة لفكرة، لنصٍ، لصوت جديدٍ يكسر صمت العالم. وصية الميلاد تكمن في مسؤوليتنا أمام الحياة: أن نترك أثرًا لا يُنسى، أن نكتب للغد بحروف تُنير الطريق، لا أن تكون محض ظلالٍ خاوية.

وصية الميلاد هي أن نحمل هذا الإرث الذي ورثناه بأمانة، أن نحيا بعمق يُشبه حبر الكُتاب الكبار الذين صاغوا العالم من كلمات. ماذا لو سألنا أنفسنا: ماذا يعني أن تكون كلمتنا الأخيرة شاهدة على وجودنا؟ هل ستكون كلماتنا قصائد تُعيد بناء الأحلام؟ أم ستكون مجرد صدى لا وزن له في الذاكرة؟

الإرث والوصية، في عمقهما، ليسا سوى وجهيْن لحقيقة واحدة: أن الإنسان لا يُعرف إلا بما يتركه خلفه. نحن نرث لغةً، فكرةً، حلمًا، ونعيد صياغتها لتكون وصيتنا التي نُهديها للعالم. الكلمات التي ننطقها اليوم قد تصبح غدًا نهرًا يحمل حكاياتنا للبعيدين، أو منارة تهدي التائهين.

فلتكن كلماتنا أصواتًا تُصارع الصمت، تُمزّق أستار اللامعنى. لنُجعل إرثنا من الحروف أصدق من أوجاعنا، وأكثر اتساعًا من حدودنا. وحين نكتب وصية الميلاد، لنكتبها كأنها آخر قصيدة نتركها في هذا العالم؛ مليئة بالحياة، غارقة في النور، شاهدة على أننا مررنا هنا، وتركنا ما لا يمكن للعدم أن يُطفئه.

هكذا تولد الكلمات من رحم الإرث، وتُسلم نفسها وصيةً لعالمٍ يولد مع كل شروقٍ جديد.. هي نبوءة البقاء، والذاكرة التي لا تُخطيء الطريق.

على مشارف لحظةٍ عابرة بين الأمس والغد كتبتُ هذا النص وأنا أترقب يوم ميلادي وَأظلُ أسألُ نفسي، فيمَ سنرحلُ وأيُّ أثرٍ سنتركُهُ خلفنا؟
ذات السؤال في كل عام جديد ومنصرم ..
فيمَ سنرحلُ وأيُّ أثرٍ سنتركُهُ خلفنا؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى