بين الماضي والحاضر .. هل تحتاج التربية إلى رؤية جديدة؟

في المجتمعات التي كانت تعيش وفق نمط تقليدي محدد، كانت الأدوار بين الذكور والإناث واضحة ومحكمة، وكان الجميع يسير وفق منظومة قيمية تفرض ضوابط لا تُناقش كثيرًا. كانت الفتيات يتربين في المنازل، ويتعلمن ويدرسن في المدارس، بل حتى يعملن، لكن في إطار اجتماعي محدد يجعل أعمالهن غالبا ضمن بيئة نسائية بحتة. كان يغلب على حياتهن التركيز على التربية، والاستعداد للزواج، وتهيئة المنزل، حيث كانت هذه الأدوار هي السائدة والأكثر قبولًا في الغالب. لم يكن هناك الكثير من التساؤلات حول هذا التقسيم، ولم يكن الفارق بين الذكر والأنثى يثير جدلًا أو تحديًا للأسرة.
لكن مع تحولات الزمن، وتغير الأدوات والوسائل المعرفية والترفيهية، وجد المجتمع نفسه في مواجهة مرحلة جديدة من الانفتاح. لم يعد العالم مقتصرًا على حدود البيوت، بل أصبح في متناول الجميع بضغطة زر. تغيرت مصادر المعرفة، وأصبحت الفتاة ترى في وسائل الإعلام، والمدارس، وحتى منصات التواصل الاجتماعي، نماذج جديدة للحياة تختلف عما تعودت عليه أمهاتهن. هنا بدأ السؤال يطفو: لماذا لا تخرج الفتاة كما يخرج الفتى؟ ولماذا تبقى تحت قيود معينة بينما أخوها يتمتع بحرية التنقل والتجربة؟
هذه التساؤلات لم تعد تطرح فقط داخل المنازل، بل أصبحت جزءًا من وعي الجيل الجديد، مما وضع الآباء في مواجهة مع تحدٍ لم يسبق لهم مواجهته بهذا الشكل. كان المبرر في الماضي يعتمد على تقاليد اجتماعية مستقرة، ولكن حينما بدأ المجتمع نفسه في التحول، أصبح المبرر يواجه تشكيكًا، وبدأت الحجج التقليدية تتعرض لاختبار حقيقي أمام وعي الجيل الناشئ.
هنا يظهر المأزق التربوي، حيث لم يعد بالإمكان استخدام الأساليب القديمة في بيئة جديدة، ولم يعد الإقناع قائمًا على مجرد إصدار الأوامر. الأب الذي اعتاد أن تكون كلمته هي الفاصلة، يجد نفسه اليوم أمام أبناء يطالبون بالنقاش والتبرير، ويرفضون الامتثال دون اقتناع. الفتاة لم تعد تقبل تفسيرات عامة حول الاختلاف بين الذكر والأنثى، بل تطالب بفهم أعمق لهذا التمايز، خاصةً في ظل عالم أصبح ينادي بالمساواة ويفتح أبوابه للجميع بلا استثناء.
في ظل هذا المشهد، لم يعد الحل يكمن في الرفض القاطع أو القبول المطلق، بل في إيجاد توازن دقيق يحفظ القيم الأسرية دون أن يتجاهل المتغيرات الواقعية. لم يعد منطق السيطرة والقمع يجدي نفعًا، بل أصبح الحوار والتفاهم أكثر ضرورة من أي وقت مضى. التربية اليوم لم تعد مجرد نقل للأوامر، بل أصبحت عملية توجيه قائمة على الإقناع وغرس الشعور بالمسؤولية. الفتاة التي تفهم معنى الخروج بوعي ومسؤولية، تختلف عن الفتاة التي تخرج في تحدٍّ مباشر لسلطة الأسرة.
إن التغيرات التي نشهدها اليوم ليست مجرد تحولات شكلية، بل هي تحولات عميقة في بنية التفكير والمفاهيم، ومن لا يدرك ذلك سيجد نفسه عاجزًا عن التفاعل مع واقعه. التحدي الأكبر ليس في مقاومة هذا التغيير، بل في كيفية توجيهه بطريقة تحافظ على الجوهر دون أن تنكر الواقع الجديد. فالعبرة ليست في منع الخروج أو السماح به، بل في فهم كيف يكون هذا الخروج جزءًا من تربية متزنة تحترم الفرد والمجتمع معًا.