ما بين الرقعة والنسخ

للكاتبة : منى آل جارالله  

ما بين الرقعة والنسخ
للكاتبة : منى آل جارالله
“القشة التي قصمت ظهر البعير”

القشة الأخيرة
في لحظة (ما ) يبدو كل شيء هادئًا. لا صراخ، لا انهيارات، لا قرارات مصيرية. فقط رتابة يومية، ابتسامة باهتة، وأمل ضئيل يتشبث بخيط هش. ثم، فجأة، تسقط القشة الأخيرة.
قد تكون تلك القشة كلمة عابرة من زميلة ، نظرة باردة من قريب، أو حتى تأخر بسيط في ردٍّ كنت تنتظره بشغف. لكنها تسقط بثقل الجبال، لا لأنها عظيمة بذاتها، بل لأنها جاءت بعد سلسلة طويلة من القش…
وتراكمات خفية، وتصدعات صغيرة، وصبر أنهكته المجاملة والتجاهل والتنازلات.
القشة الأخيرة ليست نهاية الحدث، بل نهايتنا نحن معه. هي لحظة الاستيقاظ الحاد
حين نقف مذهولين من أنفسنا
كيف صمدنا كل هذا الوقت؟
كيف تجاهلنا هذا الألم المتراكم؟
كيف ألبسنا الجُرح ثوب الابتسامة كل صباح؟

ليست “القشة الأخيرة” تلك اللحظة التي تكسّرت فيها الروح فجأة، بل هي النقطة التي فضحت ما سبقها. هي إعلان النهاية، لا بدايتها.

في يوميات الإنسان، تمرّ مئات التفاصيل الصغيرة التي لا نكترث بها كثيرًا، كلمة تُقال، تجاهل متكرر، وعد لا يُنفذ، صمت غير مبرر، تعب لا يُقدّر. كلها تتراكم بصمت خلف ستار القدرة على التحمّل… إلى أن تسقط القشة الأخيرة.
ربما ما يجعل “القشة الأخيرة” مثيرة للدهشة أننا نُبقي على اعتقاد بأننا نسيطر، وأننا نقود حياتنا بعقلانية كاملة. ولكن الحقيقة أن الإنسان كائن هشّ، ليس هشاشة الضعف، بل هشاشة العمق. إننا نتألم بصمت، ونخسر دون إعلان، ونمنح بلا حساب، إلى أن تفضحنا تلك القشة التي لا تُنسى.
اللافت أن القشة الأخيرة نادرًا ما تكون الأثقل أو الأقسى، لكنها تكون الأصدق في الكشف.
هي تلك اللحظة التي يتوقف فيها الإنسان عن الكذب على نفسه. أن تقول : “كفى”، ليس لأنك لا تملك قدرة أكثر، بل لأنك لم تعد تملك مبررًا واحدًا للاستمرار.

في الفلسفة الرواقية ، يُقال إنّ ما يُرهق الإنسان ليس الأشياء ذاتها، بل تصوره عنها.
ولكن ماذا لو كان التصور صادقًا؟
ماذا لو كنا ندرك كل يوم أننا ننكسر، ومع ذلك نُكابر؟
أحداهن ترمم الخلافات بكلمات طيبة على صعيد الأسرة والعمل والمجتمع ، وتصنع من الوجع صلاة لعلّ السلام يعود لها … إلى أن تسمع عبارة “لم تعودي كما كنتِ” فتنهار، لأن القشة الأخيرة لم تكن في العبارة، بل في الإنكار.
الشاب الذي يسعى لسنوات لتحقيق حلمه، يتنقل بين وظائف مؤقتة، يواجه رفضًا بعد الآخر، ويقنع نفسه أن القادم أجمل… حتى يقرأ إعلانًا عن وظيفة كان يحلم بها، تُمنح لابن أحد النافذين، فينطفئ. ليس لأن الفرصة ضاعت، بل لأن الإنصاف لم يأتِ يومًا.

التاريخ يُظهر لنا أن القشة الصغيرة المشتعلة، تُشعل النيران الكبيرة، ليس لأنها خطيرة بذاتها، بل لأنها تصادف أرضًا مهيأة للاشتعال.
لذلك، تجاهل التفاصيل الصغيرة أو الاستهانة بها قد يكون خطأ فادحًا .
عبر التاريخ، كثير من الأحداث العظيمة والمصائب الكبرى بدأت من أسباب بسيطة أو تفاصيل صغيرة لا تبدو في ظاهرها مؤهلة لإشعال نار الفتنة أو الحرب، لكنها كانت
“القشة الأخيرة” التي فجّرت ما كان مكبوتًا
حين تصمت الروح في محرابها
في العلاقات – سواء عاطفية، عائلية، أو مهنية – تأتي القشة الأخيرة بعد محاولات كثيرة للصبر والتفهّم والتبرير.
لكن ما يجعلها قاسية أنها لا تُقال، بل تُشعر
هي نظرة بلا كلمات، انسحاب بلا إعلان، فتور بلا سبب
هي اللحظة التي لا يعود فيها “الإصلاح” مطروحًا… لأن شيء ما انكسر داخلك بصمت
علم النفس لا يرى “القشة الأخيرة” كضعف، بل كأداة دفاعية متأخرة
والانهيار ليس انكسارًا بقدر ما هو تحرر من الإنكار
الإنسان لا ينهار لأنه عاجز، بل لأنه كان يتظاهر بالقوة طويلاً
“القشة” ليست الفشل، بل نقطة الفصل بين الاستنزاف والشفاء.

ثم.. ما
( بعد القشة )
القشة الأخيرة ليست شرًّا بالمطلق. إنها لحظة كشف. نهاية زيف، وبداية صدق. إنها الحد الفاصل بين من كنا، ومن سنصبح. حين تسقط، يكون الخيار أمامنا: أن ننهار، أو ننهض مختلفين.
أحيانًا، نحتاج لتلك القشة لتفتح أعيننا على ما كنا نتجاهله. لنُعيد التوازن، لنضع حدًّا، لنقرر أن الكرامة أثمن من الانتظار، وأن الهدوء لا يعني السكينة دائمًا.
فلتكن القشة الأخيرة بداية لا نهاية.
علامة على أنك اكتفيت…
وأنك بدأت تحيا حقًا

‫4 تعليقات

  1. اعجبني جدا لغه النص في وصف لحظة انهيار الإنسان بعد فترات طويلة من الصبر وانكاره للواقع الذي يعيشه.

    “القشة الأخيرة”اعتبرتها نقطة للتحول لا للضعف.
    اسلوبك الفلسفي والنفسي، جعلني اشعر ان الانكسار ليس نهاية، بل بداية وعي داخلي جديد ووقفة صدق مع انفسنا.

    والإنسان لا ينهار فجأة، بل ينهار بسبب تراكمات تجاهلها لفترات طويلة. حاول كثيرا عدم مشاهدتها او تصديقها.

    القشة الأخيرة ليست دائمًا كارثة، قد النقطه الكاشفة والمنقذة، او الصحوة.

    وقد تكون مؤلمة لكنها ضرورية للنهوض.
    اعجبتني المقاله جدا حيث انها تصف واقعي الذي اعيشه هذه الايام.
    ابدعتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى