(ما بين الرقعة والنسخ)

للكاتبة: منى آل جارالله..  

الإجازة بالمسقف
لا تسألني عن وجهتي في الإجازة، فالبوابة الإلكترونية للرحلة لم تغلق بعد، وجواز السفر لم يختم، و”الشنطة” ما زالت مملوءة بأحلام نوم الظهيرة التي غفت حين عودتي من العمل لأخر يوم بالعام الدراسي ومن باب السخرية القرن الدراسي.
أنا لست في “باريس”، ولا على ضفاف البوسفور، أنا ببساطة… في المسقَف.
“المِسقَف” (بكسر الميم وفتح القاف) هو مصطلح دارج في اللهجة الجنوبية في السعودية هو الصالة المتوسطة في البيت، تقع غالبًا بين الغرف. في بعض البيوت، تُطل عليه الغرف من الأعلى أو تحيط به وكأنه قلب المنزل.
ذلك المكان الذي خلق من حياد مكاني عجيب. لا هو مجلس رسمي بعبق البخور، ولا غرفة نوم يتطلب دخولها خجلًا أو استئذانًا.
المسقف هو حالة شعورية، مساحة وجودية مفتوحة على كل شيء …
الهواء، العيون، الجدّات، صياح الأطفال، وصرير الباب الذي لا يغلق إلا إذا غضبت الأم، الترحيب
هو باحة سلام وساحة حرب..
في الإجازة الصيفية لا تحتاج إلى تذكرة سفر أو فيزا لتدخل عالمًا آخر… يكفي أن تجلس في “المِسقَف”.
ذاك المكان الجنوبي الغريب، لا هو مجلس رسمي، ولا غرفة نوم، بل هو فضاء عائم بين الداخل والخارج، تتقاطع فيه رائحة الهيل مع أصوات المراوح، وتتشكل فيه خرائط لا تعترف بالجغرافيا ولا خطوط طول ولا خطوط العرض .
مكان تتقاطع فيه الحياة اليومية من الأحاديث، شاي العصر، لعب الأطفال، متابعة الأخبار، وحتى المشاورات العائلية.
ربما تداس مرات بالأقدام وأنت برحلة ما خارج حدودك.. وتنتظر حضور البقية
أكتب لكم من مصنع القرار الشعبي ، فالمسقف ليس مساحة فيزيائية، بل مركز ثقل الحياة والتفكير الشعبي المنطقي واللامنطقي الممزوج بحلاوة الروح ومرارة السخرية
حيث الجلسة التي لا يرأسها رئيس، ولأترفع الأيدي إلا لتقليب الجمر وتقطيع الكيك وتمرير دله القهوة اذا حمي وطيس الكلام .
لكنها حقيقة تقرر مصير الكون كل يوم ، ليطوى القرار الصادر للنسيان مباشرة بعد انفضاض المجلس وقول حديث كفارة المجلس قبيل المغرب تارة وقبيل الفجر تارة.
حوارات المسقف منشقة تارة وعاقة تارة وأكثر الأحيان بارة جدا وتختم جميعا بعبارة ” ما بغت الإجازة تجي ، دار الحول ما شفناكم .. وتتعالى الضحكات
في المسقف تغتسل من الهموم وتغربل الأخبار وتمارس الحرية بلا محاضر
تبنى دول في دقائق وتهدم بسخرية خفيفة مع شاي بالحبق
تعيش ألف حوار، وتؤسس ألف وطن
في المسقَف، الفوضى مرتبة، والعشوائية مقدسة، والحوارات لا تقاطع لأنها كلها تبدأ وتنتهي بجملة: “أنا أقول لك…”
في المسقَف، لا نسافر… نحن من نُستَقبل كما صالات المطار والسعادة تغمر الكل والكل مرحب به
يأتينا كل شيء بين جدليات الفلسفة والتأملات الوجودية وهزليات الواقع ..الخ
في المسقف…
تشرب القهوة على إيقاع قرارات لم توقع.
تضحكنا الجدة بعبارة أعظم من أي بودكاست بقولها: وش لكم بهالسوالف؟ طيب انبسطوا شوي!
ليست الإجازة دائما سفراً وجهات، أحيانا تكفيك مسقف عالي السقف وناس عقولهم أعلى
لتعود للواقع مبتسما..
“المِسقَف” أكثر من مجرد مكان…
هو الذاكرة اليومية للعائلة، حيث تصنع القصص الصغيرة، ويعاد تدوير الحوار، وتنسج العلاقات
وفي رأسي أيضا مسقف
يجلس فيه “المنطق” على كرسي بلا مسند
ويختبئ “الحدس” خلف ستارة مائلة
ويتمايل “التناقض” في منتصف الغرفة، كأنه مروحة لا تُطفأ
الإجازة في هذا العقل-المسقَف – لا تعني السكون
بل تعني: أن تمنح فرصة للجلوس مع نفسك، دون بروتوكولات
وتكتشف – فجأة – أن الأفكار التي تجاهلتها عامًا كاملًا
تجلس أمامك، تمَدد أقدامها، وتطلب قهوة، من باب العلم اخبرتها مرارا اني احب الكرك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى