الثقافية

نصوص للتفكر والتأمل .. ‏(سقف مستعار) لـ “محمد الراشدي”

قراءة : حمود الصهيبي  

سقف مستعار عندما تأصلت القصة القصيرة وأخذت مكانا لها يزاحم الأجناس الأدبية الأخرى فكان ل ( جي دي مبسيان ) دور تطورها حتى قيل “أن القصة القصية هي مبسيان ومبسيان هو القصة القصيرة ” ونقول أن القصة القصيرة هي الراشدي والراشدي هو القصة القصيرة .

الراشدي في مجموعته القصصية رسم لنا لوحات ادبية احتوت المجموعة على ثلاثين لوحة بين قصص قصيرة جدا وقصص قصيرة والتي أشار في نهايتها أن المجموعة كتبت في ثلاث سنوات بين عامي 1439هـ إلى عام 1443هــ بدأت المجموعة بسقف وانتهت بسقف .

في زحمة النصوص، قلما تجد نصاً يثير الاهتمام ويستوقف القارئ، وقلما تجد بين السطور ما يجعلك تفكر في القيمة الفنية أو الفكرية للنص. وبما أن القراءة هي كتابة جديدة للنص، فإن من حق القارئ أن يمنح النص المقروء ما يريد، وأن يفكر فيه على طريقته.
تنقلت نصوص محمد الراشدي في مجموعته (سقف مستعار) من حظيرة النصوص العادية التي تمر مرور الكرام، ونراه يشكّل نصه الخاص، بلغة وبأفكار تكاد تخصه وحده ….
يعنون الراشدي قصته الأولى (سقف مستعار) وقد حملت عنوان المجموعة. يدفعنا أثناء قراءتها إلى التفكير فيما يعنيه أن يعيش الإنسان تحت سقف مستعار، سقف ليس ثابتاً، تقتلعه الريح وتجعل صاحبه بلا مكان يؤويه. وحين تضرب عاصفة ذات مساء بيته “شعر أن أنفاسه تطير فتبلغ السماء، وحين أفاق كانت نظرته مع أنفاسه تتنزه في مشهد النجوم، بينما سريره يتوسط أربعة جدران ليس فوقها أي سقف”. يدرك الراشدي أن الإنسان الآن مهزوم، ويجد نفسه عارياً وضعيفاً ولا شيء يحميه .

وفي عالم الضياع الذي نعيش فيه، يشعر الإنسان بأنه يفقد هويته، أي وجوده، وإن كانت له هوية مكانية، فهي أيضاً لا تحميه من الضياع، ويمكن استخدامها بشكل سلبي وضار. وهنا تأتي قصة (بطاقة هوية) تعبيراً عن وجود الإنسان ضمن حيز مكاني معين، وضمن شروط معينة وضوابط خاصة، فيتساءل: ماذا يعني أن أكون منتمياً إلى مكان ما؟ كيف أكون حراً في هذا العالم؟
بطاقة الهوية عند الراشدي، في هذه القصة، تستخدم سلاحاً. يقول الراشدي: “بمرور الوقت نسيت في بطاقة هويتي فكرة الهوية، وصرت أراها سكيناً فحسب، وصارت تلك السكين مغروسة على الدوام في أحاديث نهاري ومنامات ليلي”. وهنا يدرك الراشدي أن التمترس والانغلاق سيوديان بالإنسان إلى مزيد من العنف . .
في قصة (مصباح يجلب العتمة)، يفكر الراشدي بشكل مغاير لما يألفه البشر. فمثلاً هناك سعي بشري حثيث لإضاءة الليل، واستخدام الأنوار بأشكالها المختلفة وتقنياتها الجديدة لمحو العتمة، أما الراشدي، فيدفع بطله المجنون إلى اقتراح أن ندع الليل كما هو وألا نلوثه بمصابيحنا، ويقول: “النهار طاغية جبار.. ينقعنا في هجيره وأضوائه ساعات طوال، ثم حين يدنو الليل يتسرب النهار إلينا من حلوق المصابيح، وأعمدة الإضاءة، وشغب النيون، فينقض طمأنينة ليلنا ومباهج عتمتنا”. ولهذا يقترح المجنون أن يبتكر مصباحاً يجلب العتمة، ويجسر سطوة الضوء الذي شرد الظلام.
في هذا العالم المرعب، تحضر فكرة الموت، وتقتحم واقعنا بقوة هائلة، وهي الفكرة الحقيقية الوحيدة التي لا يختلف عليها اثنان. إن الموت أحياناً يتسرب إلينا ونحن أحياء نتنفس ونمارس أعمالنا اليومية. هذه الفكرة يعالجها الراشدي في قصة (الدود) من خلال سرد لطيف ولغة شفافة. وها هو الدود يحاصر سرير بطل القصة، ويستخدم البطل كل أنواع المبيدات ولا يفلح. يصر على معرفة المكان الذي يأتي منه الدود إلى بيته. يلاحق دودة، ويصل إلى المقبرة. ولكن الصدمة الحقيقية كانت حين يدرك أن المقبرة هي نفسها بيته: “تمعن في تفاصيل المكان غير مصدق أنه منزله.. أوشك أن يتهاوى.. مشى مترنحاً نحو فراشه الذي غادره في الصباح مبعثراً… وعلى طرفي الفراش عند موضعي الرأس والأقدم رأى وسادتين نصبتا بشكل طولي يشبه كثيراً شاهدتي قبر”.
تطرح قصة (باركود) تساؤلاً وجودياً: هل نحن مجرد أرقام؟ هل نحن كائنات حقيقية تصنع مستقبلها، أم مجرد كائنات لا نملك من أمرنا شيئاً؟
وفي قصة (هاتف ثابت)، يحاول الراشدي أن يستعيد ما للأشياء القديمة من أثر، ومن قوة وجود. فالهاتف الثابت كانت له وصلات في الجدران، وله مكان يوضع عليه، ودليل هاتف، وأسلاك طويلة خارج المنزل. ومع تطور التكنولوجيا، أصبح لا معنى له، وتم الاستغناء عنه وعن ملحقاته. وهكذا فقد نسيه الناس، حتى إن الراشدي يصور الأمر بطريقة حميمية ومحزنة: “كانت الملابس المعلقة فوق سلك الهاتف القديم المربوط بين الشجرتين ما تزال مبتلة. وكان الماء يقطر من أطرافها. ومع الماء كان الكلام يسيل جملاً، وأشباه جمل كانت خائرة فوق سلك الهاتف، قبل أن يذيبها البلل، وتتساقط فوق التراب شظايا كلام وبقايا مكالمات قديمة”.
وأخيراًن لا يعتمد محمد الراشدي في مجموعته هذه (سقف مستعار) على الحدث، بل يكون الحدث باباً للدخول إلى ما يريد أن يقوله، وما يريد أن يحرض الآخرين على قوله. إنه يستحق بجدارة أن يوضع بين الكتّاب الذين يمتلكون صوتاً خاصاً، يشبههم وحدهم، ولا أحد سواهم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى