قطعة المغناطيس: فن تحويل التشتت إلى قوة انطلاقة

بقلم: الدكتور احمد الشمراني  

هل التشتت حالة إيجابية أم سلبية؟ لعلّ الأغلبية ستجيب بأنها حالة سلبية، وغالباً ما نميل إلى اعتبارها كذلك. لكن، كيف يمكن أن يكون التشتت إيجابياً؟ هنا، سأحاول النظر إلى التشتت من زاوية أخرى قد تكون مغفولاً عنها، رغم أنها من الزوايا التي أعتبرها مهمة للغاية. سأتناول في هذه المقالة كيف يمكن للتشتت أن يكون بداية لرحلة نحو إعادة البناء والوعي الذاتي، ودافعاً للانطلاق نحو مستقبل أكثر وضوحاً وقوة.

إن مرحلة الشتات هي في جوهرها نوع من الوعي الخفي، وكونك تشعر بهذا التشتت في ذاته دليل على يقظة داخلية. فهذا الشعور يعكس حالة من تزاحم الاهتمامات والرغبات داخل شعور الإنسان، مما يخلق حالة من التردد والحيرة. فعندما يشعر المرء بالتشتت، فذلك يدل على وجود كم لا بأس به من الأمور المتداخلة التي قد تجعله غير قادر على تحديد أولوياته بينها. هنا يصبح التشتت نوعاً من الثقل المعرفي الذي يحمله الإنسان، لكن المشكلة تكمن في من لا يعي هذا الشعور، حيث يفتقد هذا الوعي الداخلي الذي يمكن استثماره كطاقة للتجدد والنمو.

يمكن تشبيه هذه الحالة بشخص لديه مجموعة من الألوان وكراس للرسم، وكل لون يمثل اهتماماً أو رغبة، ولكنه لا يعرف من أين يبدأ في تشكيل لوحته. هذه الألوان، على الرغم من أنها تملأه بالحيرة، إلا أنها تمنحه فرصة لصنع لوحة فنية متكاملة تمثل هويته وشخصيته. فالتشتت هو فرصة لترتيب هذه الألوان والخروج منها بعمل متناسق يعكس عمق الذات وشموليتها.

وللتغلب على هذه الحالة من التشتت، يمكننا تشبيه البحث عن النقطة المحورية في الذات بعملية البحث عن “قطعة المغناطيس” التي تجمع الشتات تحت مظلتها، تماماً كما يجمع المغناطيس برادة الحديد المتناثرة بسرعة لتتكون ككتلة واحدة متماسكة. قطعة المغناطيس هنا هي نقطة الانطلاقة التي نحتاجها لترتيب اهتماماتنا ورغباتنا، وهي الرؤية الواضحة أو الهدف الكبير الذي يوحّد كل هذه الأجزاء المتفرقة. فعندما نجد هذه النقطة في أنفسنا، نكون قد وضعنا أيدينا على المفتاح الذي يمكننا من لملمة شتاتنا الداخلي.

على سبيل المثال، إذا كان لديك شغف بالرسم إلى جانب مسؤوليات أخرى، كالعناية بأطفالك أو رغبتك في قضاء وقت مع الأصدقاء، يمكنك جعل الرسم هو “قطعة المغناطيس” التي توحّد كل تلك الجوانب. فتستطيع عند لقاء الأصدقاء أن تستخدم الرسم كوسيلة للتفاعل والتعبير عن الأفكار، أو أن تدرس أبناءك من خلال تطبيقات الرسم، كتحويل المعادلات الرياضية إلى رسومات لتبسيطها لهم. بهذا، تتحول اهتماماتك إلى عناصر متكاملة، تجمعها قطعة المغناطيس التي اخترتها، فتساعدك على بناء هوية متماسكة ومتجانسة.

فالشتات ليس مجرد تشتت عشوائي، بل هو حالة تُمهد لإعادة البناء. من يدرك هذا يستثمر هذه الحالة كطاقة داخلية تشد من أزره، وتدفعه نحو فهم أعمق لذاته، ليخطو خطوات ثابتة نحو مستقبل أكثر وضوحاً. إنه الفارق بين من يظل ضائعاً في حالة الشتات، ومن يرى فيها بداية جديدة؛ رحلة لملمة الأجزاء المتناثرة وصياغة الذات بشكل أقوى وأشمل.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى