التهميش الأسري.. جرح صامت في كيان العائلة

بقلم / الدكتور أحمد الشمراني  

في داخل كل أسرة، بين الجدران التي يفترض أن تكون حصنًا منيعًا للأمان والانتماء، قد ينشأ شعور خفي لكنه عميق الأثر، يُدعى التهميش. هو ذلك الإحساس الذي يجعل أحد أفراد العائلة يشعر وكأنه حاضر بجسده، غائب بروحه، يرى نفسه في المشهد، لكنه لا يجد له دورًا فيه. ليس لأنه لا يملك القدرات أو الاستعداد، بل لأن من حوله لم يمنحوه فرصة، لم يلتفتوا إلى وجوده كما يجب، ولم يشعروا أن في إقصائه ظلمًا صامتًا ينمو ويتغلغل في أعماقه.

لا يولد التهميش فجأة، بل يتشكل شيئًا فشيئًا، حين يتكرر إغفال هذا الفرد في اتخاذ القرارات، أو عندما تُسند المهام والمسؤوليات لأطراف أخرى، كالأصهار أو الأقارب، بينما هو يُستبعد، إما بدعوى الخوف عليه، أو بدعوى أنه لا يجيد ما يُطلب منه. لكنه يدرك في داخله أن السبب ليس ضعفًا فيه، بل نظرة قاصرة من أسرته، لا ترى إمكاناته الحقيقية، أو ربما تتجاهلها دون وعي.

ومع مرور الأيام، يصبح هذا الشعور ثقيلًا على النفس. يبدأ المُهمَّش بالانسحاب التدريجي، ليس لأن لديه رغبة في الابتعاد، بل لأنه لم يعد يجد في بقائه ما يمنحه الإحساس بالقيمة. يتوقف عن طرح رأيه، عن عرض أفكاره، عن المشاركة في الأحاديث، ليس عن قلة اهتمام، بل لأن صوته قد تعوّد أن يكون غير مسموع. حتى يصل إلى المرحلة التي لا يعود فيها مهتمًا بمحاولة إثبات نفسه، بعد أن أنهكه البحث عن اعتراف لم يأتِ.

ثم تمر السنوات، ويكبر هذا الإحساس، حتى يصبح جزءًا من تكوينه النفسي، يدفعه إلى البحث عن بيئة أخرى يجد فيها نفسه، ربما بين الأصدقاء، أو في مجتمعات تمنحه ما حُرم منه في أسرته. وحين يحدث ذلك، تبدأ الأسرة في الشعور بفقدانه، تسأل عن غيابه، تتعجب من ابتعاده، تلومه على بروده وانسحابه، لكنها تغفل أنها كانت السبب الأول في ذلك.

وعندما تتغير الأدوار، ويجد الوالدان أنفسهم في مرحلة من العمر يصبحون فيها أكثر احتياجًا إلى أبنائهم، إلى قربهم واهتمامهم، قد يفاجأون بأنهم لم يعودوا الأولوية في حياة من همشوه يومًا. حين يحتاجون إلى من يشاركهم أيامهم، من يستمع إليهم ويساندهم، يجدون أن أبناءهم – دون وعي منهم – يعاملونهم بنفس اللامبالاة التي تعرضوا لها في الماضي. ليس عقوقًا، وليس انتقامًا، بل لأن مشاعر الإهمال عندما تترسخ في النفس، يصبح من الصعب أن تُمحى بسهولة. قد يكون الأبناء حاضرين، لكنهم ليسوا قريبين حقًا، تمامًا كما كانوا يومًا ما في كنف الأسرة، جسدًا بلا صوت، ووجودًا بلا تأثير.

لكن الأمل لا يموت، ولا تزال هناك فرصة لإصلاح ما انكسر، طالما أن القلوب لم تغلق أبوابها تمامًا. على الوالدين أن يعيدا النظر في تعاملهم مع أبنائهم، أن يمنحوهم الفرصة ليكونوا فاعلين في أسرتهم، أن يشعروا بهم، لا مجرد وجود شكلي، بل كأفراد لهم رأي ومسؤوليات ودور حقيقي. فكل ابن يشعر بأهميته داخل أسرته، لن يبحث عنها في مكان آخر، وكل من منحته أسرته الحب والاعتراف، سيعود إليها مهما ابتعدت به الأيام.

‫2 تعليقات

  1. رائع جدا
    للاسف هذا كثير في الأسر حتى يصبح الاب يعتمد على الخادم والخادمة والعمال وأولاده لايعملون شيئًا أبدًا لأنه لايريد أن يتعب طوال السنين في تعويدهم على تحمل المسؤوليات

  2. لا جف قلمك ابا سلطان …
    فعلًا هذا الحاصل مع بعض الاسر …. لذلك من التربية الإيجابية اعطاء الأبناء الفرصة في التعبير عن آرائهم وفرصة لتحمل المسؤولية وفرصة لاثبات الذات وهكذا في جميع الجوانب الحياتية… أستشعر أيها الأب و أيتها الأم ( الاستثمار الأمثل في الأبناء والبنات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى