النادل وأنا

بقلم : حمود الصهيبي  

المكان جميلٌ وشاعريٌّ، يذكِّرني بالمقاهي التي كان يتحدَّث عنها طه حسين وعبَّاس محمود العقَّاد. تزيِّن المقهى صور الفنَّانين والمطربين المصريِّين. وتصطف فوق رفوف جداريَّة أباريق وأكواب، منحت المكان جماليَّةً خاصَّةً. كانت المكبرات تشدو بأصوات الفنِّ العربيِّ الأصيل في الزمن الجميل.
دخلت برجلي اليمنى، واستقبلني النادل بوجه صارمٍ وسؤالٍ جلفٍ لا يشبه ألفة المكان الحميم: هل لديك حجز مسبق؟
قلت محاولًا أن أزرع البشاشة: لا..
نظرت إلى الطاولات، فوجدتها خاويةً على عروشها، باستثناء طاولةٍ أو اثنتين كانتا مشغولتين ببعض المرتادين.
هممت بالمغادرة، إلَّا أنَّ النادل التفت نحوي وقال: هناك طاولةٌ عند الباب.. بإمكانك الجلوس عليها.
وافقت وجلست. تناولت قائمة الطلبات، واخترت مشروبًا دافئًا ليخفِّف من برودة اللقاء.
عاد النادل ثانيةً، وقال مشيرًا نحو الباب: هناك. وأشار نحو الباب.
ظننت أنَّه يطردني.. وتابع: بإمكانك الجلوس بجانب الباب.
كانت الطاولة التي أشار إليها تختبئ بحياءٍ بعيدةً عن الأنظار.
وقفت من دون أن أفتح جدالًا مع النادل. أردت أن أبقى على قيد الحياة في مكانٍ يضجُّ بالحياة، واتجهت نحو الطاولة المنعزلة.
جلست ما يقارب الساعة، وبقيت كثيرٌ من الطاولات فارغةً.
فهمت أنَّ النادل يختار زبائنه، ولم أكن أنا من ضمن قائمة خياراته المفضَّلة؛ لأنَّه لم يرحِّب بي كما رحَّب بمن أتوا بعدي.
عندها قرَّرت ألَّا أعود إلى هذا المكان مرَّةً أخرى. فالأمكنة حيَّةٌ كالبشر تمامًا وهي تختار من تحبُّهم، كما يختار الناس أصدقاءهم.. وخرجت وأنا أتمتم: إن لم يخترك المكان.. غادره.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى