حكايا آمنة .. جلال أمي

بقلم / آمنة العطاالله  

في لهجتنا المحلية، “الجلال” هو رداء الصلاة، ولكنه بالنسبة لي كان أكثر من مجرد قطعة قماش… كان حنانًا يلفني، وطمأنينة تغشاني، وسكينة تُطفئ وجعي.

2018: عام البدايات**
كان عامًا مفصليًا في حياتي، عامًا من الاختبارات التي كشفت لي معاني جديدة للصبر والقدرة والتحمل. أصبت بحروق في يدي اليسرى، اليد التي أعتمد عليها في عملي كمحامية، مما جعل المهمة أكثر تعقيدًا. لم يكن الألم الجسدي هو المشكلة الوحيدة، بل كان العجز النفسي الذي شعرت به حين وجدت نفسي غير قادرة على القيام بأبسط الأمور التي اعتدتها.

كنت بحاجة إلى تدوين الأدلة والبراهين لعرضها أمام القاضي، ولكن كيف أكتب وأنا بالكاد أستطيع تحريك أصابعي؟ كانت المهمة شبه مستحيلة، ولكن الله قيّض لي ست أيادٍ حانية، كانت سندي في رحلتي نحو الشفاء…

*سلمى وأخواتها*
بناتي، ملائكتي الصغيرات، كنّ عونًا لي في أدق تفاصيل يومي. يساعدنني على ارتداء ملابسي، يسرّحن شعري، ويحرصن على ألا يصل الماء إلى يدي المصابة. في كل زيارة لغرفة الضماد، كنت أشعر وكأنني أُنتزع مع كل مرة يقطع فيها المقص جزءًا من الجلد الميت، ومع كل قطرة مطهّر تحرق الجرح. كنت أبكي ألمًا، فتقول لي سلمى بصوت يفيض حنانًا: *”تعالي يا أمي، اسندي رأسك على كتفي، علّ الألم يخف.”*

لم تكن تلك مجرد كلمات، كانت بلسمًا يشفي روحي قبل جسدي. العزلة تجعل الألم مضاعفًا، لكن الاحتواء يجعل الوجع يتلاشى.

#### *عطايا الله تأتي بأشكال مختلفة*
وسط كل هذا الألم، شاء الله أن تكون إصابتي سببًا في تحقيق الخير. كنت أمثل شيخًا كبيرًا في قضية صلح متعثرة منذ أربع سنوات. عندما رآني في المحكمة، دهش من إصراري على الحضور رغم إصابتي، وسألني مستنكرًا:
*”أستاذة آمنة، أنتِ جاية في رمضان ويدك بهذه الحال؟”*
أجبته بابتسامة هادئة: *”نعم، من أجلهم.”*

لم أكن أعلم أن هذه العبارة ستكون المفتاح لحل القضية. تأثر الرجل بموقفي، وقال: *”خلاص، خلي الولد يأخذه.”*
أربع سنوات من النزاع، ولم تنهِها مرافعات ولا أحكام قضائية، بل كلمة صادقة خرجت من قلبي.

جلال أمي… وعبق رمضان**
في رمضان، لا شيء يضاهي لذة اجتماع العائلة، وخاصة الجلوس إلى أمي. كنت أحب أن أعد لها طبقها المفضل، لكنها كانت تعلم أن يدي المصابة تعيقني. استعنت ببناتي وأعددت الطبق بيد واحدة، كنت فخورة بنفسي، ولكن أكثر ما أسعدني هو أنها شعرت بذلك.

استيقظت من قيلولتها، واستنشقت رائحة الطعام قائلة: *”هذي ريحة طبخ أمون!”*
أجبتها مبتسمة: *”إي يمه، من الظهر وهي في المطبخ.”*

اقتربت مني، وبحركة دافئة، أخذت رداء صلاتها وغطتني به، وهي تردد بصوتها المليء بالدعوات: *”ربي، قلبي راضٍ عنها، فارضَ عنها.”*
كان العالم كله يحتضنني في تلك اللحظة…

#### *وجع يتجدد… وحب لا يتغير*
ذات يوم، كنت برفقة سلمى عندما انغلق الباب على يدي المصابة. شعرت بوجع لا يُحتمل، وبدأت أردد دعائي: *”ربي أجرني في مصيبتي…”*
لكن ما جعل الألم أقسى، كان وجه سلمى وهي تبكي بحرقة: *”يا أمي، أوجعني وجعك… ما أتحمل أشوفك تتألمين.”*

في تلك اللحظة، أدركت أن معاناتي لم تكن تخصني وحدي، بل امتدت إليهن جميعًا. كنّ يحملن ألمي في صمت، ويدارين مخاوفهن حتى لا يضعفنني.

عدت إلى المنزل، والتففن حولي كحمائم تخشى على فراخها، واحدة ترفع يدي، وأخرى تواسيني، وأمي تسرع نحوي، تحتويني كما لو كنت طفلة صغيرة. همست لي: *”جيبي يدك… هالحين أقرا عليها وتطيبين.”*
بمجرد أن لامست كفها يدي، شعرت وكأن الألم قد تبخر تمامًا!

دروس من المحنة**
خرجت من هذه التجربة وأنا أكثر وعيًا بقيمة البركة في حياتي. كان دعاء أمي درعًا يحوطني، وكان حب بناتي سندًا يقويني. تعلمت أشياء لم أكن أتخيل أنني سأتعلمها:
– تعلمت الكتابة باليمين.
– تعلمت الطبخ بيد واحدة.
– تعلمت أن الاحتضان لغة لا تحتاج إلى كلمات.

ورغم أن الزمن يمضي، إلا أن *”جلال أمي”* لا يزال يغشاني بالرحمة، يغمرني بالأمان، ويذكرني أنني، في نظرها، ما زلت طفلتها الصغيرة…

‫3 تعليقات

  1. السلام عليكم
    كلامك جميل كل كلمه كتبتيها أثرت في نفسي
    ربي يسعدك وانتي دايم مبدعه وقويه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى