منى آل جارالله تكتب لـ”درة” | ما بين الرقعة و النسخ .. رجل القش

بقلم : الكاتبة / منى آل جارالله  

حين يصبح الوهم أقوى من الطائر

في منتصف الحقل، يقف رجل القش — دمية صامتة، ساكنة، بلا حراك ولا نَفَس، لا تملك سلاحًا ولا نية، لكنها تثير في العصافير ما لا تثيره الكواسر: الخوف. ليس لأنه يهاجم، بل لأنه يشبه شيئًا قد يُهاجم. مخلوق خُلِقَ خصيصًا ليُخيف، لا ليؤذي. وهنا تبدأ المفارقة؛ فنحن لا نخافه لأنه موجود، بل لأنه يوحي بأنه قد يكون كذلك. إننا أمام وهم، بُني ليشبه التهديد، ثم تُرك ليؤدي دوره دون أن يتكلم.
ومن الحقل إلى المجتمع، انتقل رجل القش دون أن يتحرك. صار فكرة. صار ظلاً. صار رمزًا لكل ما يُفترض أن نخشاه دون تفكير. نطيعه دون مناقشة، ونبتعد عنه دون تحقق. تراه في السياسة، حين تُصنَع عدوة وهمية تُقدَّم للجمهور كسبب لكل خراب. وتراه في النقاشات، حين يُحرّف رأيك ليُهاجم على أنه شيء لم تقله. وتراه في البيوت، حين نصمت خوفًا من ردود لم تقع، وفي المدارس، حين نخشى السؤال خشية الخطأ لا الخطأ نفسه.
إن أكثر ما يثير القلق ليس وجود الخوف، بل أنه لم يعد بحاجة إلى مسبب حقيقي. فالوهم كفيل بترسيخ الفزع. وكأننا استبدلنا الوحوش برجال قش، ثم صدقنا أنهم سيأكلوننا.
المجتمع الذي يخشى الوهم، يصنع منه وحشًا. يبدأ في تشريعه، يُصدر له قوانين، يحذّر منه في المنابر، ويعلم أبناءه كيف يبتعدون عنه. حتى يُصبح رجل القش سلطة قائمة بذاتها، تمارس نفوذها بمجرد الوجود. لا تسأل، لا تناقش، لا تقترب… فهو “هناك”، يراقب، ينتظر، مع أنه لم يتحرك منذ وُضع.
وربما العصافير أكثر ذكاءً من البشر. فبعضها اقترب، نقّب، واكتشف أن لا خطر هناك، وأن هذا الرجل ليس إلا خيالاً محشوًا بالقش والثياب. لكن البشر، في كثير من الأحيان، يفضلون الابتعاد، ويعيشون عمرهم يكتبون قوانين نجاة من أعداء لا يملكون سوى ملامح التهديد.
نحن لا نخاف الواقع، بل ظله. نخاف الصوت الذي لم يُسمع، والرد الذي لم يأتِ، والعقاب الذي لم يُكتب. وهكذا يصبح الوهم، حين نخشاه جماعيًا، أكثر فتكًا من الحقيقة حين نواجهها وحدنا.
قد لا نحتاج لثورات، ولا لهدم رجال القش… بل لنقترب فقط. نمد أعيننا وعقولنا وننظر: هل هذا ما يُخيفنا حقًا؟ أم أننا نحب الخوف لأننا اعتدناه؟
في النهاية، لا يهزم رجل القش بالعنف، بل بالفضول.
الحرية ليست أن تهرب من الوهم، بل أن تدرك أنه كان وهمًا من البداية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى