منى آل جارالله تكتب لـ”درة” | ما بين الرقعة والنسخ .. الورقة الأخيرة للقلم الأحمر ..قبل أفوله

بقلم الكاتبة: منى آل جارالله  

يقول أحد المعلمين في مقطع شاهدته على مواقع التواصل استوقفتني: “حين نصحح أوراق التلاميذ نجلس إلى الطاولة والأوراق مكدسة امامنا كأنها جبال تنتظر من يتسلق ”
نمسك القلم الأحمر ونبدأ الرحلة في عوالم التلاميذ الصامتة
الورقة الأولى :
خطوط مائلة، ارقام مبعثرة، إجابات تائهة بين السؤال والجواب
فنتمتم أين كان ذهنه حين كتب؟
الورقة الثانية:
إجابات دقيقة وخط انيق وتفكير منطقيء
يضيء ظلمة التصحيحات
فنتبسم ونهمس: مازال في هذا الجيل من يفكر بصفاء.. ويستطرد بعد ذلك
متعة التصحيح وحنين القلم الأحمر
حينها عدت إلى الماضي قليلا حين كنت معلمة حيث كنت أعيش بين هذا وذاك طيفا من المشاعر اسميتها : ( متعة التصحيح )
فالتصحيح ليس مجرد تنقيط وتفقيط، بل حوار صامت بين عقل الأستاذ وقلم التلميذ
عندما يمسك المعلم قلمه الأحمر، لا يبدأ فقط في تصحيح أخطاء لغوية أو حسابية، بل ينطلق في رحلة داخل عقول صغيرة لا تُجيد التعبير بالكلمات، لكنها تُلقي برسائلها من خلال سطور مهزوزة، أو إجابات ذكية، أو حتى أخطاء مكررة تكشف عن نمط تفكير أو اضطراب خفي. إنها متعة الاكتشاف، متعة الوقوف على أطلال محاولات صادقة، أو خيبات مبعثرة، أو ومضات عبقرية لم تكن لتُكتشف لولا هذا الطقس التأملي العميق.
كل ورقة امتحان هي مرآة لحظة دراسية ما. الورقة الأولى قد تكون انعكاسًا لذهن شارد، أما الثانية فهي ثمرة وعي نقي وإدراك متين. وهكذا يتقلب المعلم بين الورقة والأخرى، كمن يفتح نوافذ تطل على عوالم داخلية لتلاميذ لا يملكون لغة للتعبير سوى خط أيديهم.
يُتهم القلم الأحمر كثيرًا بالقسوة، ويُنظر إليه على أنه سيف يقطع النجاح من الفشل، لكنه في الحقيقة أكثر رقة مما يُظن. في يد المعلم الحقيقي، لا يُستخدم هذا القلم للإدانة، بل لاكتشاف بذور الفهم، وتعزيز المحاولة، والإشارة إلى الطريق دون تجريح أو تهكم. فالمعلم الذي يُصحح بقلبه، يرى في كل خطأ فرصة، وفي كل إجابة ناقصة بداية حوار لم يكتمل.
لقد كان القلم الأحمر رمزًا لعلاقة حية بين المعلم والمتعلم، علاقة مبنية على التأمل، وإعادة التفكير، والتواصل غير المباشر، لكنه تواصل صادق وعميق. هو لحظة مراجعة ليس فقط لعقل الطالب، بل لعقل المعلم نفسه، كيف شرح؟ أين أخفق؟ من فهم؟ ومن بقي على الهامش؟
فالأستاذ الذي يصحح بقلبه قبل قلمه الأحمر ذلك السياف الصغير، لا يطارد الأخطاء بل يبحث عن بذور صغيرة للفهم
إن سألت عن طقوس بعض المعلمين بعد نهاية كل اختبار، فلا تسألهم عن التعب، بل عن الوجد.
فثمة من يتعامل مع التصحيح لا كواجب وظيفي، بل كـمقام طربي يتذوق فيه لحن العقول، ويستمع إلى صمت الورق كما يُستمع إلى ترتيل خفي يهمس من بين السطور.
في يوم التصحيح ينفرد المعلم بورقه المقدس، يمد يده إلى قلمه الأحمر كما يمد شاعر يده إلى جعبته أو ناقد إلى مخطوطةٍ ، يبدأ الطقسُ لا على عجل بل بخشوع
هنا فكرة ناقصة…
وهناك ومضة عبقرية
وهنا طالب خائف كتب ما لم يسأل عنه، لأنه اعتاد أن الحياة تسأل عكس المتوقع.
يمر المعلم بين الأوراق كمن يعبر مدينة من الأرواح لكل ورقة قصة، ولكل قصة صمت كان يستحق الإصغاء.
يضحك مع إجابة خفيفة الظل، يتنهد مع خطأ كان يمكن تفاديه، يضع خطاً أحمر تحت سطر كُتب بروح، لا بعقل فقط.
إنه لا يصحح، بل يقرأ الإنسان.
وهذا الإنسان، حين يُقرأ، لا يُختزل إلى درجة.
بل يُختصر إلى سؤال: هل كان لدي وقت كاف لأفهمه؟
هنا يكمن جمال التصحيح، لا في وضع العلامة، بل في المراجعة الصامتة بين المعلم ونفسه:
هل وصلت؟ هل علّمت؟ هل أعددتُه للحياة؟
ولكن، ما أقصر عمر الطقوس في زمن السرعة
فها هو القلم الأحمر يوشك أن يُطوى، ومعه تُطوى سيناريوهات خالدة لا تُكتب في التقارير، بل تُروى بين معلمين:
أتذكر الطالب الذي كتب لي قصيدة بدل الإجابة؟
ذاك الذي كتب ‘لا أعلم’ وأضاف: لكني أعدك أني سأتعلّم؟
كل هذه المشاهد، هذه الحبكات الصامتة، ستختفي.
في زمن التسارع الرقمي، ومع هيمنة أنظمة التصحيح الآلي والرقمي، بدأت هذه الفسحة التأملية تختفي تدريجيًا من حياة المعلم. لقد أصبح التصحيح مسألة أتمتة، ونقاط، وخوارزميات باردة. لم يعد هناك حوار، ولا تساؤل داخلي، ولا تلك الابتسامة المفاجئة التي ترافق إجابة ذكية في ورقة متواضعة. لم يعد هناك متعة اكتشاف شخصية التلميذ من طريقة تفكيره، أو أثر المعلم في ارتقاء فكر تلميذه.
سيأتي التصحيح الآلي ببرودٍ نبيل، سيعطي الدرجة، وسيكون “عادلاً” في الظاهر، لكنه أبكم في الجوهر.
لن يبتسم لإجابة ذكية، لن يتنهّد لأخرى موجعة، لن يُصاب بحيرة أمام فكرة خارجة عن النمط.
سيكون التعليم بعدها أكثر دقة… لكنه أقل حياة.
وفي مقام التصحيح، سيُصبح القلم الأحمر أثرًا بعد عين، يُحتفى به كما يُحتفى بحرفٍ قديم في لوحة
وسنتذكره لا كأداة، بل كرمزٍ لفترة كانت الروح فيها جزءاً من المنهج
وكان المعلم فيها يصحح كما يُغنّي
وكأن كل ورقة امتحان… قصيدة تُغنّى لا سؤال يُجاب عليه.
فهل نكتب، قبل رحيله الأخير:
يا قلمًا أحمر كنتَ شاهداً… وما زلت جميلاً حتى في غيابك
فلنتذكر ان القصة لم تنتهِ لكنها فقدت بطلها الحقيقي…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى